كلمة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في مؤتمر الاقتصاد الاغترابي الثالث - فندق فينيسيا
الثلاثاء، ٠٤ تموز، ٢٠٢٣
أيها الحفل الكريم
عندما نتحدث عن الاغتراب في هذا الوقت بالذات، فإن أول ما يتبادر الى ذهني هو العلاقة الوثيقة بين المقيمين على أرض الوطن واللبنانيين المنتشرين في كل أصقاع الدنيا. ولولا الدعم الذي يقدمه الانتشار اللبناني لأبناء الوطن، لكان وقع الأزمة التي يمر بها لبنان أشد إيلاماً وخطورة.
ولكن، في موازاة هذا الجانب من العلاقة الذي يتجلى بقوة في واقعنا الحالي، فإن الجانب الأكثر أهمية هو وفاء اللبنانيين المغتربين والمنتشرين لوطنهم لبنان، وتعلقهم بوطنهم وانتمائهم العائلي، وهذا دليل على الأصالة اللبنانية التي – أينما انتشرت في العالم – تحافظ على ولائها للوطن الذي ولدت فيه، وعلى وفائها للوطن الأول الذي ولدت فيه أو تحدّرت منه.. لبنان.
كما أن المغتربين هم الرئة التي يتنفس منها لبنان، بفضل خبراتهم المهنية التنافسية، والكفاءة والريادة المُعترَف بهما لهم حتى من قبل أشدّ المنافسين.. وكذلك بفعل شبكة العلاقات الواسعة التي يتمتعون بها، وقدرة الربط والضغط والتأثير في مراكز القرار، خاصة الإقتصادية والمالية والصناعية والتكنولوجية، في دول الانتشار.
أيها الحفل الكريم
ينعقد مؤتمركم اليوم على وقع أزمة الشغور الرئاسي المستمر منذ أشهر من دون ظهور بوادر حل، بعدما تمترست الأطراف الداخلية المعنية خلف مواقف لا تقبل التراجع عنها، وبعدما دخلت الوساطات الخارجية أيضاً في دائرة المراوحة حتى إشعار آخر.
في مواجهة هذه المراوحة، تستمر الحكومة في تسيير شؤون الدولة والمرافق العامة وخدمة المواطنين، والسعي قدر الإمكانات المتاحة الى تلبية المطالب المحقة وفق الصلاحيات الدستورية التي تلزمها بالإجتماع وتصريف الأعمال. وأقول بكل ثقة إن الحكومة تكاد تكون المؤسسة الدستورية شبه الوحيدة التي لا تزال تؤمّن استمرارية الدولة ومؤسساتها، بعدما تسلّل التعطيل الممنهج الى سائر المؤسسات، بفعل الحسابات والتعقيدات السياسية التي تتحكم بعملها.
لم ولن تتقاعس حكومتنا عن القيام بعملها، وعن المثابرة على التخفيف قدر المستطاع من حدة الأزمات المتراكمة منذ سنوات طويلة، ولا نزال نعمل رغم الإمكانات القليلة المتاحة على التخفيف من وطأة هذه الأزمات.
ما فعلناه حتى الآن لا يلبي طموحنا وطبعا لا يلبي طموح مطالب اللبنانيين حتماً، ولكن الواقع يجعلنا نعتمد منهجية الحل الممنهج على مراحل، بدءًا بتخفيف حدة أزمات الكهرباء والبنزين والدواء، وإزالة مشهد الطوابير التي أتعبت اللبنانيين، وصولاً الى ما نشهده من حركة في البلد، لم تكن لتتحقق لولا الاستقرار الأمني وإعادة الحيوية أيضاً الى بعض القطاعات الاقتصادية التي نشهدها حالياً.
أيها الحفل الكريم
بدا من الواضح من مجمل المواقف الاعتراضية التي نسمعها أن استمرار الحكومة في مهامها لا يتوافق مع طموحات الأطراف الساعية الى تعميم الفراغ، إما بحجة إعادة بناء المؤسسات وفق توازنات تشكل انقلاباً على الدستور وروحيته، وإما للضغط في اتجاه تحقيق مكاسب فئوية أو نجاحات شعبية مزعومة.
قدرنا أن نصبر على الافتراءات والاتهامات الباطلة وبات ضرورياً وضع النقاط على الحروف، منعاً للتمادي في التضليل.
إن الحكومة ليست مسؤولة عن الفراغ الرئاسي وعن الحروب السياسية المتجددة بين المكونات السياسية، وليست هي من يمنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
الفريق الذي يتمترس خلف حفاظ مزعوم على صلاحيات رئيس الجمهورية، هو نفسه من مارس التعطيل لسنوات ويتمادى في رفع التهمة المثبتة عليه بإلصاقها بالآخرين، وبالسعي المستمر لتعطيل عمل الحكومة والتصويب على قراراتها.
في المقابل ثمة من تستهويه وضعية "المعارضة" فيصوّب على عمل الحكومة لكسب شعبية مزعومة، وكأن البلد يتحمل مزيداً من الجدل والسجالات العقيمة.
لقد تعاليت كثيراً على الافتراءات والاتهامات التي طالت الحكومة وطالتني شخصياً، لقناعتي بصوابية العمل الذي نقوم به لمصلحة البلد. وإذا كان البعض اعتبر هذا الموقف ضعفاً أو تشبثاً بالمنصب، فهو مخطئ جداً، ومخطئ أكثر من يعتقد إنه يمكنه ممارسة الوصاية على عمل الحكومة، فيحدد مسبقاً ما يجب القيام به وما هي المحظورات والممنوعات، وفق ما يتم تسريبه مباشرة أو بالواسطة.
نحن، في الحكومة، نراعي الواقع الموجود في البلد، ودقة الموقف وخطورته، ونتفهم أن الناس ملّت السجالات والحملات، ولكننا لن نقبل بوصاية أو بهيمنة علينا. فالدستور واضح نصاً وروحاً، ونحن نلتزم بأحكامه ولا نبرمج عملنا وفق أهواء البعض ورغباته.
إلى المعترضين أقول،
إنتخبوا رئيساً جديداً بأسرع وقت فتنتفي كل الإشكالات المفتعلة.
إرحموا الناس وأوقفوا افتعال تشنجات وسجالات لا طائل منها.
توقفوا عن نهج السلبية ونمط التعطيل وعن الشحن الطائفي، وقد مررنا بالأمس القريب بـ "قطوع" استطعنا تجاوزه بحكمة المعنيين ووعيهم.
إرحموا الناس الصابرة على أوجاعها والتي تصارع يومياً لتأمين قوتها وحياتها. فما من شعب تحمّل ربع ما يتحمله شعبنا واستطاع الصمود. وهذه هي ميزة اللبناني المنتفض دوماً على اليأس والذي يمتلك ميزة حب الحياد والإصرار على النهوض.
ختاماً، تبقى التحية الى "مجموعة الإقتصاد والأعمال" على مثابرتها على إقامة اللقاءات النوعية التي تساهم في بث النبض في البلد. وتحية خاصة الى الأستاذ رؤوف أبو زكي. نتمنى التوفيق لمؤتمركم وإن شاء الله ينعقد مؤتمركم المقبل وقد تم انتخاب رئيس جديد للجمهورية. والسلام عليكم.