ميقاتي يخرج " مرتاح الضمير" ومتمسكاً بالاعتدال و" بما علمني لبناني"
بقلم طارق ترشيشي (جريدة البلد 2/7/2005)
تثمين الرئيس المكلف تشكيل الحكومة فؤاد السنيورة "الجهد الذي بذله رئيس مجلس الوزراء الاستاذ نجيب ميقاتي وحكومته في انجاز الاستحقاق الانتخابي" فقط من دون الالتفات الى بقية ما انجزته الحكومة الميقاتية، كشف ذلك المستور في "هجمة" المعارضة الى تسمية ميقاتي لتشكيل حكومته قبل ثلاثة أشهر على أثر إعتذار الرئيس عمر كرامي عن تشكيل الحكومة يومذاك أيضاً.
وهذه "الهجمة" أدت يومها الى فوز الرئيس نجيب ميقاتي على منافسه النائب والوزير السابق عبد الرحيم مراد في الاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الحكومة، بعدما شعر المعارضون ان وصول مراد الى رئاسة الحكومة قد يغير من قواعد اللعبة او قد يفوت عليهم خططاً وضعوها لخوض انتخابات وتحقيق فوز كاسح فيها يمكنهم من الاستيلاء على السلطة.
غير ان هذه "الهجمة" أيضاً لم تكن تعني ان تأييد المعارضين لميقاتي ناجم من ايديولوجيا معينة او لأنه ينتمي الى خيارات المعارضة واتجاهاتها، وانما جاءت في ضوء نصيحة دولية لهم بأن ييسروا أمر تشكيل حكومة تجري الانتخابات في مواعيدها من دون ابطاء بما يمكنهم من الفوز بأكثرية المقاعد النيابية وبالتالي الاستيلاء على السلطة. ولذا فإن المستور في "هجمة" المعارضة هذه لم تكن خياراً سياسياً او لأن ميقاتي "يؤيد" خياراتها وتوجهاتها، وانما كانت مناورة للوصول الى إجراء الانتخابات، وقطع الطريق على أي محاولة لتأجيلها لأن المعارضين شعروا يومها ان عامل الوقت بدأ يعمل لغير مصلحتهم فيما هم يريدون الاستفادة من التعاطف الشعبي مع آل الحريري نتيجة جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتصفية الحسابات السياسية مع خصومهم "المتورطين" في نظرهم بهذه الجريمة "تدبيراً" او "تقصيراً".
والواقع ان تولي ميقاتي رئاسة الحكومة كان يومها نتاج ما سمي "التسوية الإقليمية ــ الدولية" التي كان أطرافها الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية وسورية إذ ان هذه الدول اتفقت على أن إجراء الانتخابات النيابية من شأنه ان يوفر قيام حكومة جديدة تنقل لبنان الى مرحلة هادئة ومستقرة.
وقيل يومذاك ان هذه التسوية الإقليمية ــ الدولية تقضي بأن يبقى ميقاتي في رئاسة الحكومة، بحيث يؤلف حكومة ما بعد الانتخابات على قاعدة ان رئيس كتلة "المستقبل" النائب سعد الدين الحريري الوريث السياسي لوالده لن يرشح نفسه لتولي رئاسة الحكومة إلا بعد كشف الحقيقة في جريمة اغتياله، وان ميقاتي هو الشخصية الأنسب لرئاسة الحكومة في هذه المرحلة الانتقالية كونه على علاقات جيدة مع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية. ولذلك حرص ميقاتي على تشكيل حكومة حيادية لم يترشح هو ولا أي من وزرائها للانتخابات ترجمة لهذه الحيادية وتأكيداً للوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى التي تنافست في الاستحقاق الانتخابي.
ولكن ما ان انتهت الانتخابات، حتى تغيرت وجهة المعارضة التي قبضت على أكثرية المقاعد النيابية طامحة إلى تشكيل حكومة تقبض فيها على ثلثي المقاعد الوزارية، وأول خطوة لها في هذا المجال كانت استبعاد الرئيس ميقاتي عن رئاسة هذه الحكومة، والاتيان بالسنيورة ليتولى تعبيد الطريق أمام النائب الحريري للوصول الى رئاسة الحكومة بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية العماد اميل لحود او بعد كشف الحقيقة في جريمة اغتيال الحريري.
وثمة من يقول ان استبعاد ميقاتي عن رئاسة الحكومة يكشف أمرين: إما ان مفاعيل التسوية الإقليمية الدولية التي جاءت به الى رئاسة الحكومة المستقيلة قد انتهت، واما ان كتلة المستقبل وحلفاءها قرروا الاتيان برئيس للحكومة من صفوفهم كونهم فازوا بأكثرية المقاعد النيابية ولم يعد لديهم من مصلحة في ان يكون رئيس الحكومة نقطة تلاق بينهم وبين الآخرين. وغالب الظن ان الخيار الأخير هو الذي حتم عليهم تسمية السنيورة لتشكيل الحكومة كونه كان أقرب المقربين للرئيس الراحل وشريكه في تخطيط وتنفيذ كل المشاريع والسياسات التي انتهجتها الحكومات الحريرية الخمس التي شغل في إحداها منصب وزير دولة للشؤون المالية ثم وزير أصيل للمال في البقية.
لكن أما وقد خرج الرئيس ميقاتي من رئاسة الحكومة فإنه يسجل له انه من القلائل الذين خرجوا من هذا الموقع الرئاسي تاركين بصمات ستكون لها ايجابياتها على المستقبل فهو في خلال العمر القصير جداً لحكومته استطاع ان يرسي بعض المفاهيم السياسية الوطنية التي تقوم على الاعتدال الذي لا قيامة للبنان من دونه بعدما جرّب اللبنانيون التطرف وما خلفه من سلبيات خرّبت كثيراً من نواحي حياتهم السياسية.
ففي خلال الأشهر الثلاثة التي أمضاها ميقاتي في السلطة، حمل كرة النار وتمكن من احتواء لهيبها ومنعه من الانتشار رغم المخاطر الكبيرة التي تحيق بالبلاد وتجعلها أشبه ببرميل بارود معرض للاشتعال والانفجار في أي لحظة وعند أي هزة.
وقد كانت تجربته في التعاون مع رئيس الجمهورية العماد اميل لحود "بناءة" باعترافهما اذ حكمها التزام القوانين والأنظمة وحدود الصلاحيات التي ينيطها الدستور بموقعي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء. اما علاقة ميقاتي بأطراف اللعبة السياسية داخل مجلس الوزراء وخارجه فلم تشوبها أي شائبة، بدليل ان أياً من الأفرقاء لم يبد أي تذمر او انتقاد منه ومن أداء حكومته التي نفذت كل ما التزمته في بيانها الوزاري، بدءاً من إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها بعيداً عن أي تدخل، رغم ان البعض قد أخذ على وزارة الداخلية تلكؤاً هنا وسوء أداء هناك في ما يتعلق بالشؤون اللوجستية للعمليات الانتخابية. وهذا الأمر يتحمل مسؤوليته الوزير حسن السبع الذي اتهمه البعض بأنه تصرف أحياناً بشيء من الكيدية التي ليست من طبع رئيس حكومته، متأثراً بالبيئة السياسية التي ينتمي اليها والتي فرضت توزيره لدى تشكيل الحكومة ولم يناقشها المعنيون يومها في مشيئتها اذ راعوا شعورها إزاء هول الجريمة الكبرى التي ذهب ضحيتها الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وكانت تعليمات ميقاتي الى وزارة الداخلية وكل المعنيين الرسميين بالانتخابات هي السهر على ان إجراء الانتخابات في أجواء أمنية مستقرة وفي مناخات ديمقراطية يؤمن تكافؤ الفرص في التنافس أمام الجميع.