كلمة الرئيس نجيب ميقاتي في حفل تخريج طلاب جامعة بيروت العربية – فرع الشمال 3/9/2016
السبت، ٠٣ أيلول، ٢٠١٦
أيها الحفل الكريم
أقف على منبر جامعة بيروت العربية، وفي ذاكرتي محطات أربع أريد أن أستعيدها أمامكم لكي نأخذ منها معا العبر. المحطة الأولى كانت في العام 1957 حين اتُخذ أهم قرار رؤيوي على الإطلاق من قبل القيّمين على "جمعية البر والأحسان" وهو إنشاء جامعة في بيروت، وتمّ اللقاء بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي وافق دون أي تردد على طلب الجمعيّة بدعم الجامعة من الناحية العلميّة والأكاديميّة، رافضاً في الوقت ذاته تسميتها بإسمه ومقترحاً إسم "جامعة بيروت العربية". وها هي الجامعة، منذ انطلاقتها في العام 1960، وبعد سنوات من العمل الدؤوب، في تقدم وتطور مستمرّين، فالعبرة الأولى التي نستخلصها معكم هي الرؤية الثاقبة للقيّمين على "جمعية البر والأحسان"، والنظرة الاستراتيجية للرئيس عبد الناصر، والعمل المشترك لتحقيق هذا الهدف.
المحطة الثانية كانت عام 1999 حين بدا حلم إنشاء فرع الجامعة في طرابلس، ولم يكن الأمر يسيرا، وافخر بانني سعيت وساهمت في كل الاتجاهات لكي يصبح هذا الحلم حقيقة، وتكلل ذلك عام 2005 حين وضعت شخصيا حجر الأساس لانشاء هذا الصرح في هذا المكان بالذات تعبيرا عن إيماني بدور العلم في مسيرة النهوض وتنشئة الأجيال، وكان هناك كمّ كبير من المشاكل والعراقيل، من شراء الأرض الى زيادة استثمار البناء، الى تكلفة البناء وتأمين الدراسة. والعبرة هنا، كما يقول الإمام الشافعي "سيفتح الله لك باباً كنت تحسبه من شدة اليأس لم يُخلق بمفتاح".
أما المحطة الثالثة في تاريخ هذه الجامعة فكانت في العام 2014 حين افتتحت مبنى العزم في فرع الجامعة في طرابلس استكمالا لهذه الرسالة، والعبرة هنا هي في ارساء نهج التضامن الاجتماعي والمسؤولية المشتركة التي تنهض بها المجتمعات.
ويقتضي منا بوقفة وفاء لهذه الجامعة، أن أذكّر انها كانت اول جامعة في الشرق تدرّس اختصاص الاتصالات، وبفضل الدفعة الأولى من خريجيها في هذا الاختصاص تمكنت شركتنا من الانطلاق والتطور.
أما المحطة الرابعة التي إستذكرها في هذه اللحظات فهي مختلفة، فكلما أقف على منبر للتخرج تعود بي الذاكرة الى يوم تخرجي من الجامعة الأميركية في بيروت، وكان خطيب الحفل يومها الرئيس سليم الحص، اطال الله بعمره، وتحدث عن تجربته الغنية في الشان العام، وأعترف امامكم الآن أنني لم أنصت اليه بانتباهٍ كامل لأنني من كلامه ذهبت الى عالم الأحلام.
حلمت بشاب يستعجل خطى النجاح في الأعمال، ينشط في الحياة العامة، يتولى مسؤوليات سياسية، طامحا، فاعلا، مؤثرا، ويتبوأ أعلى المناصب السياسية والوطنية. تلك كانت أحلامي التي أخذتني بعيدا في لحظة التخرج، كما هي أحلام الكثيرين منكم اليوم.
تحدثنا عن العبر التي يجب أن نتعلم منها والآن سنتحدث عن الحلم الذي يقودكم الى مساحة، لا حدود لها من الحرية، ويعطيكم الأمل في مواجهة اليأس والاصرار بالصبر على ما تصبون اليه.
تلوجون اليوم العالم الواقعي، بعيدا عن النظريات الجامدة، حاملين خوف جيلكم من الحاضر والمستقبل بسبب الأهوال المحيطة بوطننا وامتنا وبسبب ضيق الفرص وانسداد الأفق، فلا تهتموا لذلك، فأنتم لستم فقط الجيل الخائف بل الجيل الذي يخيف في آن معا، لأنكم جيل وسائل التواصل الإجتماعي حيث تستطيعون التعبير والتأثير في كل لحظة وعلى مدار الساعات والأيام بواسطة كبسة زر وصياغة جملة، جيلٌ بات يمكن أن يحرك العالم. ولكن اوصيكم أن تكونوا على مستوى هذا الصرح الذي تتخرجون منه اليوم لأنه صرح يعلم القيم والاخلاق كما التربية والعلوم.
المستقبل لكم فلا تترددوا، ولا خيار أمامكم الا خوض غمار العمل المنتج والدؤوب من دون كلل أو ملل.
كل منكم يختزن في داخله طاقة خلاّقة جبارة، لكن المهم أن يُدرك المرء نقاط قوّته ونجاحه وتفوّقه.
هذه ليست نصيحة تقليدية بل هي قاعدة نجاح في الحياة، يقولها لكم رجل طَموح يُصارع مرارة الواقع وقد يعتبرني البعض رجلا سياسيا والبعض الآخر رجل اعمال ناجحا، ولكنني لا ارى نفسي، مهما اتسعت دنياي الا الأبن الذي سعى دائما الى رضى الله ووالديه ما إستطاع اليه سبيلا، والأب الراغب في أن يرى مستقبله في تماسك عائلته ونجاح أولاده.
يا أبناء وخريجي جامعة بيروت العربية
اليوم هو حكماً من أكثر أيامكم سعادة
هو اليوم الذي كنتم اليه تشخصون، حيث يتحول كل واحد منكم ، الى شخصية ناضجة وعاملة وحاضرة لتحمل المسؤوليات العملية والعائلية والوطنية.
اليوم هو يوم أحلامكم الكبيرة، وهي حق لكم، فلا تتواضعوا بأحلامكم لكن لتكن أهدافكم عملية وقابلة للتنفيذ .
حددوا أهدافكم بعقولكم وسيروا اليها بثقة واستفتوا قلوبكم واستمعوا الى أصوات ضمائركم التي تذكركم دائماً بواجباتكم امام الخالق والخلق. أليس سيد الخلق من قال خيركم خيركم لأهله؟
كونوا مع الالتزام الصادق والعميق بالقيم الدينية والانسانية، لأن هذا هو مكانكم الطبيعي والسليم.
ثقوا بأن الديمقراطية والمذهبية ضدان، كما الحرية والعنف ضدان، وكذلك المعرفة والتخلف ضدان.
لبنانكم الواحد لا يكون الا لجميع أبنائه من خلال شراكة حقيقية في الحقوق، كما في الواجبات، في المواطنية، كما في الانتماء..... فاعملوا كي يبقى كذلك.
أيقنوا أن مبادرات الحلول العربية والخارجية المطروحة، على أهميتها، لن تكون بديلا عن التوافق بيننا كلبنانيين، فاعملوا على توطيد الثقة المتبادلة في ما بينكم، أنتم جيل الشباب، لتعزيز دوركم في صناعة مستقبل وطنكم على صورة طموحاتكم وآمالكم.
فلا خيار الارتهان والتبعية للخارج مفيد، ولا نهج العناد والمكابرة في الداخل مجد، ولا بديل عن قيام تعاون حقيقي أساسه الثقة، لادارة شؤون الوطن ومعالجة الأزمات التي يتخبط بها.
أبناءنا الاعزاء
تعلمون جميعا أننا من دعاة الوسطية والإعتدال، وأن الخطاب المعتدل ليس جذابًا وبراقًا ومثيرًا كخطاب الإصطفاف والتحريض وتحريك الغرائز.
نحن نعلم ان مهمتنا شاقة ولكن معكم ومع امثالكم من اصحاب الكفاءة والتنور تهون الصعوبات وننجح .
أبناءنا الاعزاء
لا تهدروا طاقاتكم على جَلد الذات ولا تنسوا الخطأ لكن الأهم هو أن تتجاوزوه.
لا تهملوا الصواب والإنجازات حتى لو كانت ضئيلة مقارنةً مع الخطأ والفرص الضائعة.
إبنوا على الماضي في نجاحاته مهما كانت قليلة وتجاوزوا الأخطاء والخطايا مهما توفرّت.
ليكن كلامُكم أقل من أفعالكم
وليكن نجاحكم أكبر من إخفاقاتكم...
كلّنا يُخطئ وجلّ من لا يُخطئ، لكن الصواب في المبادرة لا في المغادرة... لا تهاجروا عند أول عائق... تجاوزوا اليأس بطموحكم وتعلّقوا بجذوركم فلا يسهل اقتلاعكم.
أنتم خميرة هذا الوطن وثروته الحقيقية. كفانا هروباً للطاقات والمواهب بدون حساب، الهجرة مباركة شرط أن لا تصبح الملاذ الوحيد، وكفانا تصديراً جماعياً لشبابنا وشاباتنا.
مغتربونا وكلّ من قصد المهجر هم اليوم فخر وسند لاقتصاد لبنان، لكنّ نسبة هجرة الطاقات الشابة هي عاليّة جداً وواجبكم كما هو واجبنا أن نحدّ منها بدون أن نلغيها لأنها نعمةُ في اعتدالها، ونقمةٌ في تكاثرها...
تعلّقوا بأرضكم؛ إبنوا دولتكم؛ امنحوا لبنانكم المناعة وتذكروا القول الشهير: لا تسألوا أنفسكم ماذا يمنحني لبنان؟ بل قولوا لأنفسكم: واجبي أن أمنحه كي يّعيد لي عطائي أضعاف الأضعاف...
لقد ضقنا ذرعًا بالحروب العبثية التي لم تتوقف في ما بيننا والتي أدت في ما أدت اليه الى إشاحة النظر عن القضايا الرئيسة واولها وأهمها اغتصاب فلسطين، في الوقت الذي نعيش نحن الحروب المدمرة وزهق الأرواح البريئة وتدمير مقومات الإقتصاد العربي في كل مكان، من المحيط الى الخليج.
لقد نال هذا الجيل، كما الأجيال التي سبقت، كفايتها من الحروب، ولكي تتوقف هذه الحروب علينا أن نؤمن للضعيف والمستضعف شعوراً بالأمان، بعدما تعرضت الأغلبية المطلقة من الناس في منطقتنا للظلم والإضطهاد والكراهية. ولا يمكن للحروب ان تتوقف الا حين يكون القوي عادلاً والضعيف آمناً، وهذا ليس بالأمر اليسير لكنه ليس مستحيلاً .
نحن أبناء الأجيال التي سبقت نراهن عليكم للتأثير إيجاباً بحياة الآخرين
نحن أبناء الأجيال التي سبقت نراهن عليكم لإيجاد الحلول بدل طرح الأسئلة
نحن أبناء الأجيال التي سبقت نتوقع منكم أنتم ان تغيروا الواقع وتبلغوا المرتجى
فنحن نعيش في عالم تسيل فيه الدماء بغزارة
هناك اطفالٌ و شبابٌ لم يلتحقوا بمدارس وجامعات كما فعلتم وكما تيسر لكم
هناك فسادٌ في كل مفاصل حياتنا العامة
هناك فراغٌ لا يملأه الا من يشبهكم.
التحديات التي ستواجهكم أيها الأعزاء، لا يمكن مواجهتها الا من خلال العلم والتضامن والتمسك بالقيم والفضائل، والعمل الدؤوب لتحقيق الانجازات الانسانية، والاصلاحات والتوعية المطلوبة. إن كل هذه المهمات لا تصبح حقيقة قائمة، الاّ من خلال بناء دولة قابلة للحياة، وحكومات مركزية قوية يسود فيها حكم القانون، والاستمرار في تعزيز تعلّم القراءة والكتابة ومكافحة الأمية والجهالة، وتوفير التنمية المستدامة.
أيها الحفل الكريم
لست في هذا المقام لأتحدث عن السياسية اللبنانية وتفاصيلها، لكن من الصعب تجاوز ما صدر بالأمس من قرار اتهامي بتفجير مسجدي التقوى والسلام في قلب مدينتي طرابلس. ونحن، كما كنّا دائماً، لا نتدخل في عمل القضاء لكننا نعوّل عليه لاحقاق الحق ومحاسبة كل الضالعين في الجريمة، فعشرات الشهداء ومئات الجرحى أمانة في اعناقنا ومن واجب السلطة القضائية ومسؤوليتها الوطنية والاخلاقية كشف المرتكبين ومحاكمتهم لأنهم من أسوأ الناس لأية فئة انتموا لانهم استهدفوا المؤمنين في بيوت الله الآمنة. طرابلس حمت كل لبنان من الفتنة يوم التفجير ولى القضاء أن ينصفها وينصف شهداءها.
أيها الأحباء،
وأنتم تخرجون الى الحياة العامة، إفتخروا بما حصلّتم، لا تديروا ظهوركم الى جامعتكم التي تعتز بكم وتحتاج اليكم. فهذا الصرح الكبير الذي خرّج الالاف قبلكم، وسيخرّج الآلاف بعدكم، ليس فقط جامعة تدرّس شبانا وشابات وتؤهلهم للعمل، إنها منارة علم وحضارة، ومعلم للحياة، بها نفاخر ومن أجل قوتها وتقدمها نعمل لكي تستمر في حمل راية التجدد والتجديد وتبقى تساهم في نهضة بلدنا والشرق العربي عموما.
ولا بد لي في هذه المناسبة من أن أوجه التحية الى جميع القيّمين على جامعة بيروت العربية، لا سيما رئيس الجامعة الدكتور عمرو جلال العدوي ومجلس الامناء وعلى راسه الأخ الصديق الدكتور سعيد الجزائري، وجميع الاساتذة والعاملين. وبما أننا في فرع الشمال لا بد من أن نشكر جمعية متخرجي جامعة بيروت العربية في الشمال وأخص بالشكر الأخ الصديق أحمد سنكري الذي قام بدور أساسي في انشاء فرع الجامعة في طرابلس. كما نستذكر في هذه المناسبة فقيد الجامعة وفقيدنا المرحوم الأستاذ عصام حوري، الذي تحمل دورة التخرج هذه إسمه والذي اعطى الكثير من وقته وجهده بإخلاص وتفان في سبيل نجاح هذه الجامعة.
لتكن رسالتنا الى بعضنا البعض أولا، والى الآخرين ثانيا، ألا نستسلم أو نقبل بالأمر الواقع القاتم الماثل امامنا على امتداد العالم العربي. فعلى رغم الصورة الضبابية، يلوح أمل في الأفق. لننتصر على ذواتنا ونجعل من قلقنا على الغد حافزا ينفخ فينا روح العزم والتصميم.
لنشجع بعضنا بعضا على فتح قلوبنا وأفكارنا ونوحدها، لأن في الاتحاد قوة، بما يمكننا من تحقيق نتائج كثيرة تتجاوز ما يمكن أن نحققه منفردين.
نصيحتي لكُم أخيرا لا تخافوا المستقبلَ فما فالمستقبلُ الا عملكم اليوم وعمل اليوم يجب ان يكون دائما رضى الله ورضى الوالدين. . والسلام عليك