كلمة الرئيس نجيب ميقاتي في منتدى التعاون الدولي السابع - اسطنبول بتاريخ 29-11-2016
الثلاثاء، ٢٩ تشرين الثاني، ٢٠١٦
فخامة الرئيس
أيها الحفل الكريم
شرفٌ كبير لي أن أكون ضيفًا في هذا المنتدى للتعاون الدولي الذي إنطلقت أعماله في العام ٢٠١٠ لرسم مسارات جديدة في المنطقة على المستويات السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
والاعتزاز الأكبر أن أعتلي هذا المنبر مع هذه الكوكبة المميزة من المفكرين كي اتحدث عن منطقتنا الحافلة بالتحديات وعن دور لبنان ومستقبله، وأوكد على رسالته الحضارية المميزة في هذه المنطقة التي تشهد صراعات دموية عنيفة ستترك أثرها لسنوات، بل لعقود.
فإتفاقية تقسيم المنطقة بين النفوذين البريطاني والفرنسي، التي وقعت قبل مئة عام، تشهد سقوطها التام في هذه الأيام ، وكم كان مفيداً لو ادرك قادة المنطقة ما يرسم لنا من مشاريع ومخططات ليحددوا بانفسهم رؤية مستقبلية للمنطقة بدل الانجرار في صراعات إستحضرت من عمق التاريخ لتكرس انقسامات وصراعات لا تنتج الا مزيدًا من الحروب وتراكم الخسائر.
أيها السادة
من خلال مراجعتي لاعمال منتداكم منذ اطلاقه حتى اليوم ، لاحظت كيف تطورت الأبحاث والعناوين وكيف تبدّلت أدوار الدول في المنطقة. فمن عنوان التعاون الإقليمي عام (٢٠١٠) الى الشراكة في المنطقة (٢٠١١) الى مستقبل دور أوراسيا (٢٠١٢) الى مواجهة الصعوبات الإقتصادية والإجتماعية (٢٠١٣) فتغيير مسارات المنطقة وضرورة الدخول في حوارات (٢٠١٤) فالعودة الى ضرورة مواجهة الفقر وإطلاق التنمية (٢٠١٥) وها نحن اليوم نبحث في مقاربات جديدة سياسيا واقتصاديا للسنوات الخمسين المقبلة، في الوقت الذي باتت فيه أيامنا المعاشة محفوفة بالمخاطر الوجودية وبالقلق على الحاضر والمستقبل.
الصورة اليوم ليست مشرقة، الا أن كل المتغيرات التي نمر بها يمكن أن تكون فرصة كي نستجمع أفكارنا وقوانا من أجل تحديد مستقبل مشرق لمنطقتنا، نصنعه نحن قبل أن يفرض علينا من خلال مؤتمرات شبيهة بلوزان او سان ريمو أو معاهدة سافرSevres.
إن تجربة تركيا خلال السنوات الخمس عشرة الماضية وما شهدته من نهوض استثنائي كانت تجربة مميزة تستحق الاقتداء بالكثير من مضامينها .ولعل الجهد الذي بذله فخامة الرئيس رجب طيب اردوغان واسلوب استنهاضه لتركيا ومجتمعها وإقتصادها كان له الدور الأهم في اغناء هذه الحقبة، ولكن يبقى الفضل الأكبر لشعب تركيا المقدام الذي وثق بقيادته، رافضا كل محاولات الانقلاب على ما تحقق. وكان لنزول الناس الى الشارع أخيرا الدور الاساس في الحفاظ على الديموقراطية في تركيا والتي نتمنى دوامها هنا وفي كل مكان ليكون للناس الكلمة الفصل بطريقة سلمية .
أيها السادة،
في بلدي لبنان إنتخبنا رئيسًا للجمهورية بعد سنتين ونصف السنة من الشغور في سدة الرئاسة ونحن في صدد العمل على تشكيل حكومة جديدة لتنطلق بعدها ورشة عمل متعددة الأوجه ابرز مضامينها معالجة المشكلات الاقتصادية والمالية وتداعيات النزوح السوري على لبنان.
وأنا، كلما نظرت الى الماضي القريب حين توليت رئاسة الحكومة مع إنطلاق الثورات العربية، إذ تزامن يوم تكليفي في ٢٥ كانون الثاني ٢٠١١ مع يوم انطلاق الثورة في مصر وكرت السبحة بعد ذلك، اشكر الله على أننا استطعنا قدر المستطاع النأي بلبنان عن صراعات المنطقة وحفظنا الوحدة الوطنية بالحدود الدنيا، لأن انقسام الشعب اللبناني الحاد في بداية الأزمات، كان يهدد هذه الوحدة.
في بلدنا تحكمنا الجغرافيا قبل التاريخ، فحدودنا مفتوحة إما على البحر او على سوريا، لأن عداء اسرائيل لنا وإحتلالها لفلسطين لا زال يقفل حدودنا على تلك الأرض الطيبة. وما يحصل في سوريا سيكون له الأثر الأكبر على لبنان سياسيًّا وإجتماعيًا وإقتصاديًا وأمنياً، ويكفي أن أذكر انه، اضيف الى عدد سكان لبنان، اكثر من مليون نسمة من الاخوة السوريين الذين نزحوا بفعل الاحداث في بلادهم، مع ما يتركه هذا النزوح من أعباء وتداعيات على كل المستويات. من هنا، كنا ولا نزال مع حلٍ سياسي في سوريا يوقف آلة القتل والدمار ويعيد اهل الدار الى ديارهم. ونتطلع أيضًا الى أفضل العلاقات مع دول الإقليم، فمصرُ ست الدنيا ومكة مهبط الوحي على خير الأنام، ودمشق العاصمة الأقرب الى قلب بيروت وتركيا وايران دولتان تملكان نفوذا لا يستهان به وإمكانات اقتصادية هائلة نتمنى أن يتمكن لبنان من الإستفادة منها، كما في رفد البلدين بطاقات اللبنانيين المميزة بدورها.
أيها السادة،
نحن تيار سياسي لبناني نؤمن بالوسطية وبالحوار على المستويات كافة، ولطالما قلنا في لبنان أن سقف الخطابات المرتفعة ينتهي دائما بالحوار وعودة التلاقي، وقد أثبتت الأيام أن التسويات التي تأتي بشكل حتمي تكلف خسائر كبيرة على كل المستويات نعود بعدها الى نقطة الإنطلاق.
كُلُّ صراعٍ تطول مدته يتحول الى عبء والتسوية هنا هي المخرج المشرف، وصراعاتنا في المنطقة باتت بلا افق، لذلك فكل لقاء من النوع الذي نجتمع فيه اليوم في هذا المنتدى هو لقاء مشكور ومبارك ،لأنه يعمل على ازالة الخلافات او التخفيف منها او تجاوزها او حصرها بحدها الأدنى . ولتركيا في هذا السياق دور أساس، كما أن لبنان، بسبب تنوعه و تشابكه إقليميًّا ودوليًّا، قادر بدوره على القيام بدور إيجابي شرط أن يحترم التوازن الإقليمي ولا ينخرط في سياسة المحاور والأحلاف.
فخامة الرئيس
أيها السادة،
يشهد العالم كله تغيرًا في المفاهيم، فالعولمة التي انطلقت في ثمانينيات القرن الماضي تشهد أفولاً على المستويات العالمية والإقليمية وحتى الوطنية، فإرتفاع سقف الخطاب الوطني في دول الغرب ورفض الهجرة والإندماج والعودة الى القواعد الوطنية المغلقة والانكفاء على الذات انما يؤشر الى مرحلة جديدة لست بوارد تقييمها ولكنها تطرح تساؤلات وجودية ومخاوف مشروعة، من هنا فان مواجهة التغييرات كلها يكون أولًا بتحصين البلدان وحماية المصالح الوطنية واستمرار الحوارات على كافة المستويات.
من هنا ندعو منتداكم هذا الى تعزيز الحوار بين دول المنطقة وتمتين العلاقات بينها على قاعدة إحترام الخصوصيات التاريخية والثقافية والفكرية والدينية والعمل على إعطاء الحقوق لأصحابها.
أيها السادة
نحن نعيش في منطقة غنية بتاريخها، فمن هنا انطلقت الابجدية، ومن هنا انطلقت الاديان، ومن هنا انطلقت علوم الطب والرياضيات والكيمياء.نحن نعيش في منطقة غنية بمواردها ، ولدينا ما يكفي من الموارد الطبيعية كالنفط والغاز والمياه .
ما ينقصنا هو الجرأة على الثقة ببعضنا، فلنجلس ولو لمرة واحدة لنبحث سويا كيفية استجماع ما لدينا من غنى وقوة ونتعلم من أخطاء الماضي، كي نصنع معا مستقبلا زاهرا لأولادنا.
مستقبل منطقتنا كان وسيبقى مترابطًا، فلنحدده معا قبل أن يحدده الآخرون عنا.
والسلام عليكم