وسطية ميقاتي.. له أو عليه؟
الأربعاء، ٠٨ آب، ٢٠١٨
سمير الحسن – )كاتب وباحث استراتيجي) - ليبانون 24
منذ دخوله المعترك السياسي، قدم الرئيس نجيب ميقاتي منهجية جديدة في العمل العام، لم تألفها الحياة السياسية قبلا، ويمكن تلخيصها بالاعتدال في كافة مرافق العمل في الحياة العامة، وعلى الصعد المختلفة.
وقد شهدت البلاد، مرارا، حملات التعبئة الإعلامية، والسياسية، والفكرية التي غلب عليها طابع التجييش، والتحريض، بروح الكراهية، والانقسام، ورفض الآخر، وبأبعاد شتى، من الطائفي إلى المذهبي، إلى الحزبي، والعائلي، والمناطقي. عناصر متعددة طغت على الحياة العامة، فحولتها إلى بؤرة شاملة من التوتر، والتجاذب، ومن التدمير العشوائي حينا، والممنهج حينا آخر. وفي ظلها كلها، اعتمد الرئيس ميقاتي منهجا مختلفا، مميزا، لم تعتده الحياة العامة، فالتبس على كثيرين، ولم يحظ بتفسير واضح أو إجماع على ماهيته. ورغم ذلك، لم يتغير الرجل، ولم تتعدل منهجيته، ولا خطابه تغير.
أولى إطلالات الميقاتية كانت طرح الوسطية، انطلاقا من الإسلام كدين وسطي. طرحها ميقاتي، وعقد لها المؤتمرات، وأدخل إلى الحياة السياسية، والحياة العامة، مفهوما جديدا، ممنهجا، ومنظما. ولئن سبق آخرون الرئيس ميقاتي في طرح وسطي ما، نتذكر منه وسطية السبعينات زمن الرئيس الراحل صائب سلام، وترؤسه لكتلة وسطية سياسية، لكن تلك الوسطية لم تقم على معطيات فكرية وثقافية وإيديولوجية، إنما كانت ما يشبه رد الفعل، أو الرفض لمنطق اليمين واليسار.
ويوم وقعت التطورات الكبيرة عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وأفلت التصادم من عقاله، وراح كل طرف يعبيء ويحرض صفوفه على قواعد غلب عليها منطق "الغاية تبرر الوسيلة"، فلم تترك لغة تعبئة إلا واستعملت، وانطلقت خطابات يندى لها الجبين، خصوصا منها الخطاب الطائفي والمذهبي. كل عبأ صفوفه، وشحذها، وشد عصبها من دون تردد، فكانت المذهبية ابرز أصناف التعبئة. والأحزاب والتيارات السياسية في لبنان لم تعتد على أنسنة الخطاب السياسي بقدر ما اعتمدت على خطاب التحريض، والتجييش الطائفي، والمذهبي، وهذا أدى إلى مزيد من تكريس الواقع الطائفي المفصول عن الحالة الوطنية بل كانت مرتكزات اي حالة سياسية مستمدة من الخطاب الطائفي مما زاد من شرخ البلد ومجتمعه، وانقسامهما.
حشر هذا الأسلوب الرئيس ميقاتي أمام شارعه، لكنه آثر احتمالات خسارة مهما كانت كبيرة، وظل هادئا في خطابه، ولم يتوجه إلى الناس إلا بما عهدوه به من اعتدال، ونبذ الفرقة على المستوى الوطني. لم يلجأ إلى المذهبية للم شمل الشارع حوله، وأبقى على صلة الوصل المباشرة مع الناس، يستقبلهم بتواضع، ويخاطبهم بتواضع، كل باسمه، ويسألهم عن أحوالهم الخاصة فردا فردا، فبات الرئيس ميقاتي موجودا في كل حي من أحياء المدينة، في ذاكرة أهلها، مرجعية سياسية، وأبا لا يترك ابناءه في الصعوبات.
وفي العقود الماضية، كما في كل مراحل تاريخه، شكل لبنان مرآة الصراعات والتوازنات الإقليمية والدولية، فكان عرضة للاضطرابات والهزات، وبقي أسيرا لتوازنات المنطقة، ونتيجة للعبة المحاور والاحلاف. وفي خضم التوترات والاضطرابات، أطل ميقاتي كشخصية مستقلة من خارج السياق السياسي، بعيدا عن الاصطفافات ولعبة المحاور، بتجربة سياسية جديدة، عقلانية الطابع، حداثية التوجه، لا تعطي للشعارات الفارغة المضامين أية اهمية، وهو الذي اختبر العقلانية السياسية في المدرسة الأوروبية يوم كان طالبا فيها، ويوم كانت أعمال شركاته الاستثمارية تنهل من تجارب البلدان الحديثة. كان أمامه اتخاذ خطوات جريئة لم تعهدها الساحة اللبنانية، ولم تستسغ الحالة الاقليمية، وانعكاسها المحلي، تجارب مثيلة لها. يوم طرح العميد ريمون إده تحييد لبنان، عورضت طروحاته لأنها عنت تحييد لبنان عن محور الصراع الاقليمي، والامتناع عن مؤازرة الأخوة، ولأن خلفية الطرح كانت تحييده عن الصراع مع العدو الاسرائيلي، وهذا لم يكن ممكنا، ولا مقبولا من غالبية القوى المحلية والاقليمية المناصرة للقضية الفلسطينية.
حاول ميقاتي تخطي عقبات ومفاهيم التحييد عن صراعات المنطقة، فالأمر اليوم مختلف. وليست فلسطين هي محور الصراع بصورة مباشرة، وإن كانت نتيجة الصراع ستفضي إلى أن تكون في صالحها في حال انتصار المحور المساند لها، أو العكس. كان على ميقاتي اتخاذ خطوة جريئة للحفاظ على بلده من خلال المسؤوليات المنوطة به كرئيس للحكومة عند بداية اندلاع الأحداث في العالم العربي، وخصوصا في سوريا. فميقاتي يعرف من خلال خبرته السياسية، وتجربته، ووسع إطلاعه، أن الواقع الاقليمي لا بد أن يؤثر على لبنان توترات، واضطرابا، وحروبا، فأطلق مبادرة "النأي بالنفس" التي كان من شأنها أن توفر على لبنان الكثير من التوترات التي استمرت سنوات، قبل ان تضع لها الخطة الأمنية حدا شبه نهائي، فأعفى لبنان من الاستمرار في دفع الأثمان جراء ممارسات بعض القوى المحلية التي ما إن اندلعت الأحداث في سوريا حتى انخرطت فيها إلى العظم، فانعكس ذلك على الداخل اللبناني حروبا وتوترات باهظة الأثمان.
من هنا كانت أهمية فكرة "النأي بالنفس" بالمعنى الإيجابي، كخطوة ذكية استباقية وقائية مما تعانيه المنطقة، وانعكاس ذلك على لبنان عامة، وعلى حساسية مدينة طرابلس بالذات.
وعندما حلت الانتخابات البلدية، كان الهاجس عينه يضغط بثقل على مواقف الرئيس ميقاتي. وكترجمة لسياسة "النأي بالنفس"، كان إصراره على خوض الانتخابات البلدية عبر تحالف جامع يبعد الصراع عن المدينة التي لم تُشفَ بعد من أهواله، ليتطور التحالف حواريا لاحقا، ولو أدى ذلك إلى خسارة آنية، وبذلك يكون قد وضع أولى مداميك الحوار بينما خوض معركة انتخابية تحتاج إلى إثارة الغرائز، والعصيان، والطائفية، والمذهبية، فكانت الانتخابات البلدية ممرا لإعادة الحوار السياسي بين الأقطاب السياسية، وفعاليات المدينة. وقد كان هذا مدخلا فعليا لإحياء الحياة السياسية في طرابلس خارج اي اصطفاف، أو احلاف. فالتضحية الميقاتية ستؤدي إلى ربح جماعي ينعكس إيجابا على مدينة أحوج ما تكون الى الإنماء، بدلا من الصراع والاقتتال خاصة في ظل الأعاصير التي تعصف بالمنطقة.
وتشاء الصدف أن ينجح خصوم الرئيس ميقاتي وتحالفه في الانتخابات البلدية، لتأتي بلدية برهنت في سنتين من عمرها على فشل ذريع يجمع عليه القاصي والداني، وبالتالي تأكيد وجهة نظر الرئيس ميقاتي في نزوعه نحو الوافق لتجنيب المدينة شلل مؤسساتها البلدية، مع ما يعنيه ذلك من خسارة كبيرة على مختلف الصعد.
في ما صهره في شخصيته، ومنهجيته السياسية، والاقتصادية من الإسلام المعتدل الوسطي، والتمسك بالعروبة المعقلنة، والمنهجية الأوروبية النهضوية والاقتصادية، شكل الرئيس نجيب ميقاتي ظاهرة غير مسبوقة، تاق إليها الجمهور بعدما ضاعت أحلامه في متاهة الصراعات الإقليمية، وعبر عن هذه الرغبة في الانتخابات النيابية الأخيرة، نصرا كاسحا بفارق كبير من الأصوات.
وتأكيدا على صفتين هما من صلب الميقاتية، جمع الرئيس ميقاتي في تكتله ثلاثة أعضاء من الطوائف غير السنية، وإن عبّر ذلك عن أمر، فإنما عن الابتعاد عن العصبية، والانفتاح على الجميع، وإعطاء الحق بالمشاركة السياسية في السلطة لكل المكونات الاجتماعية.
عاب عليه البعض، خصوصا خصومه المغرضين الذين ما انفكوا يعبئون الشارع على المذهبية ضاربين بعرض الحائط مصالح البلاد، ووحدتها الاجتماعية والسياسية، أن تكتله لم يضم أي سني، متناسين أن لهذه الحالة اكثر من معنى، الأول، وسطيته واعتداله، وثانيه، إدراكه أن الجمهور الأكثري السني هو الذي أوصل نواب الأقليات إلى المجلس عبر التحالف معه، وما هذه الشهادة التي أرادها خصومه له تنديدا بقوته، إلا شهادة على صحة طروحاته الجامعة لمختلف مكونات الوطن اللبناني والتي لن يستطيع لبنان العيش والاستمرار والتطور إلا بها كلها.