بين ميقاتي وطرابلس.. حكاية مدينة لم يعترف بها أحد
السبت، ٢١ تشرين الثاني، ٢٠٢٠
بيروت أوبزرفر - ولاء ثابت
كان لافتاً جداً الهجوم السياسي الذي تتعرض له مدينة طرابلس منذ انطلاق حراك 17 تشرين وصولاً الى الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية والتي تفاقمت بعد تفشّي جائحة “كورونا” في لبنان.
وإذ لعب الإعلام دوراً ايجابياً في المرحلة التي انفجر فيها غضب الشارع اللبناني المكبوت طيلة أعوام، مطلقاً شعار “كلن يعني كلن” للتعبير عن رفضه للطبقة السياسية الحاكمة والمتحكّمة بلقمة عيشه ومستقبل أبنائه، عمدت بعض وسائل الاعلام الى تسليط الضوء على “عروس الثورة” التي انبهرت آنذاك ببريق الكاميرات ظناً منها أن أنين القهر سيخترق الجدار المشيّد ما بين المواطن والدولة، الا ان ما اختبأ خلف رداء التغطية الاعلامية التي تبنّت مجمل مطالب الحراك، كان اعظم!
لم يكن خافياً على أي متابع ان التصويب على زعماء الفيحاء في تلك المرحلة بدأ من أحيائها الفقيرة، حيث جرى استغلال هموم الناس وأوجاعهم، بحجة التعاطف، لاستدراجهم نحو “الحرتقة” على بعض الشخصيات السياسية لإلباسها ثوب اللامبالاة والاهمال. وفي حين هتف الطرابلسيون صوتا واحدا بوجه التيار “الوطني الحر”، كان لا بدّ من حرف الأنظار عن مطالبة هؤلاء بإنهاء خدمة “العهد” وإيداعه ركن “منتهي الصلاحية”.
أمس خرجت حفنة من الطرابلسيين لمحاسبة الرئيس نجيب ميقاتي دون سواه في جردة لما قدّمه ولم يقدمه للمدينة، محمّلين مسؤولية الضائقة المالية والاقتصادية التي يمرّ بها كل لبنان لميقاتي، معتبرين أن امواله الخاصة حق مشروع لأبناء طرابلس لتأمين قوتهم اليومي، في حين أن هؤلاء لم يحاسبوا بضمير حي الطبقة السياسية الحاكمة والمتمركزة في موقع السلطة التنفيذية، حيث القرار، متجاهلين دعوات ميقاتي المتواصلة للاسراع بتشكيل حكومة انقاذية تفادياً للتدهور الحاصل. أليس من واجب الحكومة اقرار خطة طوارىء لمعالجة الازمة الراهنة والبتّ بالمعونات الاجتماعية قبل اعلان الاقفال أقلّه كي تتمكن من السيطرة على هلع الناس من الجوع والعوز!
مما لا شكّ فيه أن أبناء مدينة طرابلس يعرفون جيدا من لم يتوانَ عن مساندتهم وفتح أبوابه على كافة المستويات الاجتماعية والصحية والتربوية في محاولة للحفاظ على كرامتهم وتمكينهم أبسط حقوقهم الواجبة اصلاً على الدولة اللبنانية، الأمر الذي يتهامسه معظمهم في جلساتهم ولقاءاتهم بين حين وآخر كاعتراف ضمني بأن من ساهموا هم أنفسهم بحصوله على لقب “زعيم طرابلس” في الانتخابات النيابية الفائتة، لم يتأخر يوما عن تلبية مطالبهم ودعمهم بما وسعت نفسه، الا أن هذا كله لا يلغي واجبات الحكومة تجاه المدينة المهمشة والمستبعدة من جميع قراراتها الانمائية والاجتماعية والصحية، وكأن هنالك من ظن أن انتماء “ابن البيت” الطرابلسي لمدينته وتبوؤه منصب نائب، يفرض عليه تحمّل فواتير اهمال الدولة المتعمّد كما لو كانت الفيحاء
بقعة مفصولة عن الوطن!لم يلجأ الرئيس نجيب ميقاتي يوماً الى الاستعراض لدعم موقعه وحضوره وخدماته من خلال جمعية “العزم والسعادة” التي كانت ولا تزال تبذل قصارى جهودها لمدّ يد العون للطرابلسيين، حيث أن رفضه للمواكبة الاعلامية بهدف إظهار جهوده في مكافحة الصعوبات المعيشية لم يمنحه حقه، الأمر الذي انقلب عليه ومكّن التحركات المسيّسة من تصويب سهام الاتهامات نحوه بالتقصير والتخلي.
وبعد ظهور أزمة وباء “كورونا” في لبنان، انقضّ البعض على الرئيس نجيب ميقاتي وحده من بين نوّاب المدينة، ولا بأس فعلاً ان كان ذلك يعطيه جزءا من حقه في الزعامة، على اعتبار انه الرجل الذي وقف دوما سدا منيعا امام سعي بعض الاحزاب والقيادات للتجنّي على طرابلس وتحميلها تبعات جميع الاحداث المأساوية التي مرت على لبنان في السنوات الاخيرة، وثارت ثائرته من اجل الحفاظ على الموقع السني وعدم السماح بالتعدي عليه من خلال محاولات القضم من صلاحيات رئاسة الحكومة، ورفض في اكثر من مناسبة اعتبار هذه المدينة الصامدة صندوق بريد و”فشة خلق” لبعض التيارات التي كلما أرادت التفرّد بالقرارات او فرض تعيينات ولم تلقَ تجاوباً، وجّهت البوصلة باتجاه طرابلس وأطلقت النار على اهلها وزعمائها بأقذر سلاح.. التحريض!
وإذ كان الرئيس نجيب ميقاتي أول من ساهم بدعم طرابلس لمكافحة “كورونا” والحدّ من انتشاره، الأمر الذي هو بلا شك من واجب وزارة الصحة المعنية بالرعاية الصحية بشكل مباشر، ولا ضرر من التعاون والتنسيق، لكن الرجل وضع جميع مؤسساته بتصرّف الوزارة المختصة، وساهم بشكل كبير في مواجهة التحديات الصعبة في هذه المرحلة على المستوى الاجتماعي والمعيشي من دون أن يلتفت الى التفاصيل، الا ان ذلك كله لم يردع عنه الهجمات الموجّهة بحجة “لم نسمع ولم نر”!
لست هنا بصدد تحميل احد على وجه الخصوص أعباء تدهور الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان، اذ ان هذا الواقع الأليم ما هو الا نتيجة لسياسات الحكومات المتعاقبة على مدى سنوات طويلة، وتكبيل بعضها من خلال إثارة النعرات الطائفية وإشعال الفتنة بهدف شلّ الحركة في البلاد وإفشال من يعمل. ألم يكن انهيار عاصمة لبنان الثانية مبنياً على مجموعة تحالفات وتنازلات دفع ثمنها ابناء طرابلس الذين لا يكاد احد يتذكر وجودهم الا في الاستحقاقات السياسية مع كل “برمة” انتخابات؟ على عكس ميقاتي، الذي لم يغلق يوما مؤسساته بوجه احد من ابناء “الشمال”، من دون تحريات او سؤال او سجل او بطاقة انتساب!
من يستهدف ميقاتي سياسياً، ويعمد الى تزوير الحقائق وفبركة الملفات فيقتطع جزءاً في ورقة من هنا او يغمز بشائعة من هناك فيتلقّفها الاعلام، غب الطلب، ويمسك بأذيالها رواد التواصل يتبعهم بعض العبثيين المتمردين من دون وجه حق ليشنوا حرباً ظالمة ويفتحوا معركة تفتقر الى منطق المواجهة بالدليل والاثبات؟ هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن المناداة بـ “كلن يعني كلّن”وفي طرابلس على وجه التحديد، ربما اخطأوا وجهتهم حين طالبوا ميقاتي بالقيام بمهام الحكومة، في الوقت الذي كانوا فيه يدعون الى منطق الدولة والمؤسسات. فكيف يقودون حملة “كلّن” ويعودون اليوم الى نغمة “وينو الزعيم”؟ هل يريد هؤلاء من قادة الاحزاب إنشاء “جزر اجتماعية” لمناصريهم وابناء مناطقهم؟ أليس التناقض الفاضح من شأنه أن يضعف موقفهم في الايام المقبلة؟
مما لا شك فيه ان بعض التحركات المبرمجة باتت مشبوهة وتستحق الف علامة تعجب وسؤال حول اهدافها وغاياتها، وإن كان للمواطن اللبناني كل الحق في الثورة بوجه الظلم والفساد، ومن حق الطرابلسي أن يرفع صوته عاليا ضد التهميش والاستبعاد الا ان هذا الحق يصبح باطلا حين يتحول الى سهم يستهدف صدر من فتح بابه وصدره وصبره لأبناء مدينة لم يعترف بها احد سواه!